سورة غافر - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


{وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ} ذكر بعض المفسرين: أن اسم هذا الرجل حبيب.
وقيل: شمعان بالشين المعجمة. قال السهيلي: وهو أصح ما قيل فيه.
وفي تاريخ الطبري رحمه الله: اسمه خبرك.
وقيل: حزقيل. ذكره الثعلبي عن ابن عباس وأكثر العلماء. الزمخشري: واسمه سمعان أو حبيب.
وقيل: خربيل أو حزبيل. واختلف هل كان إسرائيليا أو قبطيا فقال الحسن وغيره: كان قبطيا. ويقال: إنه كان ابن عم فرعون، قاله السدي. قال: وهو الذي نجا مع موسى عليه السلام، ولهذا قال: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} وهذا الرجل هو المراد بقوله تعالى: {وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى} [القصص: 20] الآية. وهذا قول مقاتل.
وقال ابن عباس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20]. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الصديقون حبيب النجار مؤمن آل يس ومؤمن آل فرعون الذي قال أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم» وفي هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي لا تعجب من مشركي قومك. وكان هذا الرجل له وجاهة عند فرعون، فلهذا لم يتعرض له بسوء.
وقيل: كان هذا الرجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون، عن السدي أيضا. ففي الكلام على هذا تقديم ف {من} عنده متعلقة بمحذوف صفة لرجل، تأخير، والتقدير: وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون. أي من أهله وأقاربه. ومن جعله إسرائيليا ف {مُؤْمِنٌ} متعلقة ب {يَكْتُمُ} في موضع المفعول الثاني ل {يَكْتُمُ}. القشيري: ومن جعله إسرائيليا ففيه بعد، لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه. قال الله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء: 42] وأيضا ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول.
الثانية: قوله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} أي لان يقول ومن أجل {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} ومن أجل {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} ف {أن} في موضع نصب بنزع الخافض. {وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ} يعني الآيات التسع {مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه، ولكم تلطفا في الاستكفاف واستنزلا عن الأذى. ولو كان و{إن يكن} بالنون جاز ولكم حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول سيبويه، ولأنها نون الاعراب على قول أبى العباس. {وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي إن لم يصبكم الا بعض الذي يعدكم به هلكتم. ومذهب أبى عبيدة أن معنى {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} كل الذي يعدكم، وأنشد قول لبيد:
تراك أمكنه إذا لم أرضها *** او يرتبط بعض النفوس حمامها
فبعض بمعنى كل لان البعض إذا أصابهم أصابهم الكل لا محالة لدخوله في الوعيد، وهذا ترقيق الكلام في الوعظ. وذكر الماوردي: أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفا في الخطاب وتوسعا في الكلام، كما قال الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ***- وقد يكون مع المتعجل الزلل
وقيل أيضا: قال ذلك لأنه حذرهم أنواعا من العذاب كل نوع منها مهلك فكأنه حذرهم أن يصيبهم بعض تلك الأنواع. وقيل وعدهم موسى بعذاب الدنيا أو بعذاب الآخرة إن كفروا فالمعنى يصبكم أحد العذابين.
وقيل: أي يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض الوعيد، ثم يترادف العذاب في الآخرة أيضا.
وقيل: وعدهم العذاب إن كفروا والثواب ان آمنوا، فإذا كفروا يصيبهم بعض ما وعدوا. {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} على نفسه {كَذَّابٌ} على ربه إشارة الى موسى ويكون هذا من قول المؤمن.
وقيل: {مُسْرِفٌ} في عناده {كَذَّابٌ} في ادعائه اشارة الى فرعون ويكون هذا من قول الله تعالى.
الثالثة: قوله تعالى: {يَكْتُمُ إِيمانَهُ} قال القاضي أبو بكر بن العربي: ظن بعضهم أن المكلف إذا كتم إيمانه ولم يتلفظ به بلسانه لا يكون مؤمنا باعتقاده، وقد قال مالك: إن الرجل إذا نوى الكفر بقلبه كان كافرا وإن لم يتلفظ بلسانه، وأما إذا نوى الايمان بقلبه فلا يكون مؤمنا بحال حتى يتلفظ بلسانه، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى، انما تمنعه من أن يسمعه غيره، وليس من شرط الايمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف، وإنما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله. الر أبعه- روى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني باشد ما صنعه المشركون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفناء الكعبة، وإذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر بمنكبه ودفع عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} لفظ البخاري. خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش بعد وفاة أبي طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقبل هذا يجوؤه وهذا يتلتله، فاستغاث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان، فأقبل يجأ ذا ويتلتل ذا ويقول بأعلى صوته: ويلكم: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} والله إنه لرسول الله، فقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر يومئذ. فقال علي: والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون، إن ذلك رجل كتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل مال ودمه لله عز وجل. قلت: قول علي رضي الله عنه إن ذلك رجل كتم إيمانه يريد في أول أمره بخلاف الصديق فإنه أظهر إيمانه ولم يكتمه، وإلا فالقرآن مصرح بأن مؤمن آل فرعون أظهر إيمانه لما أرادوا قتل موسى عليه السلام على ما يأتي بيانه. في نوادر الأصول أيضا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالوا لها: ما أشد شيء رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقالت: كان المشركون قعودا في المسجد، ويتذاكرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يقول في آلهتهم، فبينا هم كذلك إذ دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقاموا إليه بأجمعهم وكانوا إذا سألوه عن شيء صدقهم، فقالوا: الست تقول كذا في آلهتنا قال: {بلى} فتشبثوا فيه بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال له: أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وإن له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} فلهوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، إكرام إكرام.


{يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)}
قوله تعالى. {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} هذا من قول مؤمن آل فرعون، وفي قوله: {يا قَوْمِ} دليل على أنه قبطي، ولذلك أضافهم إلى نفسه فقال: {يا قَوْمِ} ليكونوا أقرب إلى قبول وعظه {لَكُمُ الْمُلْكُ} فاشكروا الله على ذلك. {ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} أي غالبين وهو نصب على الحال أي في حال ظهوركم. والمراد بالأرض أرض مصر في قول السدي وغيره، كقوله: {وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} [يوسف: 21] أي في أرض مصر. {فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا} أي من عذاب الله تحذيرا لهم من نقمه إن كان موسى صادقا، فذكر وحذر فعلم فرعون ظهور حجته فقال: {ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى}. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما أشير عليكم إلا ما أرى لنفسي. {وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ} في تكذيب موسى والإيمان بي. قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ} زادهم في الوعظ {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ} يعني أيام العذاب التي عذب فيها المتحزبون على الأنبياء المذكورين فيما بعد. قوله تعالى: {يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ} زاد في الوعظ والتخويف وأفصح عن إيمانه، إما مستسلما موطنا نفسه على القتل، أو واثقا بأنهم لا يقصدونه بسوء، وقد وقاه الله شرهم بقوله الحق {فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا}. وقراءة العامة {التَّنادِ} بتخفيف الدال وهو يوم القيامة، قال أمية بن أبي الصلت:
وبث الخلق فيها إذ دحاها ***- فهم سكانها حتى التناد
سمي بذلك لمناداة الناس بعضهم بعضا، فينادي أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار: {أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا} وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ} وينادي المنادى أيضا بالشقوة والسعادة: ألا إن فلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا، ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا. وهذا عند وزن الأعمال. وتنادي الملائكة أصحاب الجنة: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] وينادى حين يذبح الموت: يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت. وينادي كل قوم بإمامهم إلى غير ذلك من النداء. وقرأ الحسن وابن السميقع ويعقوب وابن كثير ومجاهد: {التناد} بإثبات الياء في الوصل والوقف على الأصل. وقرأ ابن عباس والضحاك وعكرمة {يَوْمَ التَّنادِ} بتشديد الدال. قال بعض أهل العربية: هذا لحن، لأنه من ند يند إذا مر على وجهه هاربا، كما قال الشاعر:
وبرك هجود قد أثارت مخافتي *** نواديها أسعى بعضب مجرد
قال: فلا معنى لهذا في القيامة. قال أبو جعفر النحاس: وهذا غلط والقراءة بها حسنة على معنى يوم التنافر. قال الضحاك: ذلك إذا سمعوا زفير جهنم ندوا هربا، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفا من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: {يَوْمَ التَّنادِ}. وقوله: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [الرحمن: 33] الآية. وقوله: {وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها} [الحاقة: 17] ذكره ابن المبارك بمعناه. قال: وأخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثنا عبد الجبار بن عبيد الله بن سلمان في قوله تعالى: {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} ثم تستجيب لهم أعينهم بالدمع فيبكون حتى ينفد الدمع، ثم تستجيب لهم أعينهم بالدم فيبكون حتى ينفد الدم، ثم تستجيب لهم أعينهم بالقيح. قال: يرسل عليهم من الله أمر فيولون مدبرين، ثم تستجيب لهم أعينهم بالقيح، فيبكون حتى ينفد القيح فتغور أعينهم كالخرق في الطين.
وقيل: إن هذا يكون عند نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور نفخة الفزع. ذكره علي بن معبد والطبري وغيرهما من حديث أبي هريرة، وفية فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيميد الناس على ظهرها وتذهل المراضع وتضع الحوامل ما في بطونها وتشيب الولدان وتتطاير الشياطين هاربة فتلقاها الملائكة تضرب وجوهها ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهي التي يقول الله تعالى: {يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} الحديث بكماله. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة وتكلمنا عليه هناك. وروي عن علي ابن نصر عن أبي عمرو إسكان الدال من {التناد} في الوصل خاصة.
وروى أبو معمر عن عبد الوارث زيادة الياء في الوصل خاصة وهو مذهب ورش. والمشهور عن أبي عمرو حذفها في الحالين. وكذلك قرأ سائر السبعة سوى ورش على ما ذكرنا عنه وسوى ابن كثير على ما تقدم.
وقيل: سمي يوم القيامة يوم التناد، لأن الكافر ينادي فيه بالويل والثبور والحسرة. قاله ابن جريج.
وقيل: فيه إضمار أي إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد، فالله أعلم. {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} على البدل من {يَوْمَ التَّنادِ} {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} أي من خلق الله في قلبه الضلال فلا هادي له.
وفي قائله قولان: أحدهما موسى.
الثاني مؤمن آل فرعون وهو الأظهر. والله أعلم.


{وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ} قيل: إن هذا من قول موسى.
وقيل: هو من تمام وعظ مؤمن آل فرعون، ذكرهم قديم عتوهم على الأنبياء، وأراد يوسف بن يعقوب جاءهم بالبينات {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] قال ابن جريج: هو يوسف بن يعقوب بعثه الله تعالى رسولا إلى القبط بعد موت الملك من قبل موسى بالبينات وهي الرؤيا.
وقال ابن عباس: هو يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نبيا عشرين سنة.
وحكى النقاش عن الضحاك: أن الله تعالى بعث إليهم رسولا من الجن يقال له يوسف.
وقال وهب بن منبه: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف عمر. وغيره يقول: هو آخر. النحاس: وليس في الآية ما يدل على أنه هو، لأنه إذا أتى بالبينات نبي لمن معه ولمن بعده فقد جاءهم جميعا بها وعليهم أن يصدقوه بها. {فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ} أي أسلافكم كانوا في شك. {حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} أي من يدعي الرسالة {كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ} أي مثل ذلك الضلال {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} مشرك {مُرْتابٌ} شاك في وحدانية الله تعالى. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ} أي في حججه الظاهرة {بِغَيْرِ سُلْطانٍ} أي بغير حجة وبرهان و{الَّذِينَ} في موضع نصب على البدل من {من} وقال الزجاج: أي كذلك يضل الله الذين يجادلون في آيات الله ف {الَّذِينَ} نصب. قال: ويجوز أن يكون رفعا على معنى هم الذين أو على الابتداء والخبر {كَبُرَ مَقْتاً}. ثم قيل: هذا من كلام مؤمن آل فرعون.
وقيل: ابتداء خطاب من الله تعالى. {مَقْتاً} على البيان أي {كَبُرَ} جدالهم {مَقْتاً}، كقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} [الكهف: 5] ومقت الله تعالى ذمه لهم ولعنه إياهم وإحلال العذاب بهم. {كَذلِكَ} أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين فكذلك {يَطْبَعُ اللَّهُ} أي يختم {عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} حتى لا يعقل الرشاد ولا يقبل الحق. وقراءة العامة {عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} بإضافة قلب إلى المتكبر واختاره أبو حاتم وأبو عبيد.
وفي الكلام حذف والمعنى: {كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ} على كل {مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} فحذف {كُلِّ} الثانية لتقدم ما يدل عليها. وإذا لم يقدر حذف {كُلِّ} لم يستقم المعنى، لأنه يصير معناه أنه يطبع على جميع قلبه وليس المعنى عليه. وإنما المعنى أنه يطبع على قلوب المتكبرين الجبارين قلبا قلبا. ومما يدل على حذف {كُلِّ} قول أبي دواد:
أكل امرئ تحسبين امرأ ***- ونار توقد بالليل نارا
يريد وكل نار.
وفي قراءة ابن مسعود {على قلب كل متكبر} فهذه قراءة على التفسير والإضافة. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وابن ذكوان عن أهل الشام {قَلْبِ} منون على أن {مُتَكَبِّرٍ} نعت للقلب فكني بالقلب عن الجملة، لأن القلب هو الذي يتكبر وسائر الأعضاء تبع له، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أي على كل ذي قلب متكبر، تجعل الصفة لصاحب القلب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7